معمل الأبحاث ليس مصنعا

عند تخرجي من درجة الدكتوراة قبل ثلاثة أعوام و الانطلاق في بناء معمل بحثي كأستاذ مساعد, كانت لدي ثقة بأني جاهز لهذا الدور الجديد كقائد لمعمل أبحاث. ثقتي كانت بسبب نظرتي أنني أمضيت سنين عديدة كمساعد باحث و طالب دكتوراة فلابد أنه بعد كل هذه السنين أنني الآن جاهز و لدي المعرفة لكيفية عمل و قيادة الأبحاث بشكل مستقل. لكن مفاجأتي كانت كبيرة خلال هذه الأعوام الأولى في كل خطوة أقوم بتعلمها و إدراكي خلال هذه الخطوات كيف أنني كنت جاهلا تماما للفرق بين القيام بالأبحاث و بين قيادة فريق بحثي. في باقي التدوينة أذكر بعض ما لاحظته:

Untitled presentation (2)

أولا: الباحث الجيد ليس بالضرورة مدير أبحاث جيد

الملاحظة الأولى هي أن المهارات المكتسبة كباحث هي جزء صغير من المهارات التي يجب أن تكون لديك كمدير لمعمل أبحاث. كباحث, أنت تكتسب مهارات البحث عن مشكلة بحثية و حلها بشكل مستقل و أن تكون عضوا فعالا في مجتمعك البحثي. كمدير معمل أبحاث, هناك أمور أخرى يجب العمل عليها. مثلا, يجب أن يكون هناك نظرة مستقبلية و بعيدة لأهداف المعمل البحثي. كباحث دكتوراة, دورة الحياة البحثية هي عدد قليل من السنين, و لكن كمعمل بحثي دورة الحياة هي العشرات من السنين. قيادة معمل بحثي بنفس دورة باحث الدكتوراة سيجعل الأفق و التأثير البحثي محصورا في هذه الفترة الزمنية الضيقة (عدة سنين) و تكرارها مع الدفعات القادمة. أما العمل بنظرة و هدف مستقبلي يمكن القيام بأعمال أعمق و التي تتطلب فترات زمنية أطول.

 مثال آخر هو أن اكتساب مهارات العمل البحثي مختلفة عن مهارات تدريب البحثين الجدد عليها. باقي النقاط تلمس بعض جوانب هذا الاختلاف.

ثانيا: معمل الأبحاث ليس مصنعا

أحد المهام الرئيسية و أكثرها تأثيرا برأيي هو تدريب الباحثين الجدد في فريقك. التدريب الجيد قد يوفر لك باحثين مستقلين يستطيعون عمل و قيادة أبحاث مبتكرة تخدم الهدف المستقبلي لمعملك البحثي. أحد أكثر الأخطاء التي أرى وقوعها في معامل الأبحاث هو التعامل مع الباحثين كعاملين في مصنع. في هذه الحالات يقوم مدير الأبحاث بالقيام بجميع العملية الإبداعية و يقوم فقط بتوزيع مهام و تجارب محددة لفريقه البحثي من دون أن يكون لهم دور في العملية الإبداعية و الطريق الذي سيأخذه المشروع. الوقوع في هذا الخطأ إما سببه هو النظرة الاستعلائية و عدم الثقة في الباحثين الجدد و أن بإمكانهم المساهمة في العملية الإبداعية أو بسبب التكاسل و عدم رؤية الفائدة من بذل الوقت لتدريب طلبة سيذهبون بعد عدة سنين.

المشكلة من هذه الطرق في التفكير أنها تؤدي لخلق فريق بحثي يعمل كمصنع. لكن الأبحاث و العمل بالأبحاث عملية إبداعية أكثر من كونها عملية ميكانيكية. الفريق البحثي “المصنعي” يعاني من المشاكل التالية:-

أ. مدير الفريق البحثي هو المصدر الوحيد للأفكار: المشكلة هنا أن مدير الفريق البحثي هو شخص واحد و بالضرورة سيكون تفكيره مقيد بخبرته – و في الكثير من الأحيان, مدير الأبحاث كون أن له العديد من السنوات يعمل في مشاكل بحثية متقاربة يجعل تفكيره منصبا في طرق معينة و مكتنز لأعتقادات بحثية قد تكون أصبحت خاطئة. وجود عناصر جديدة (خضراء) يجدد من الأفكار و يؤدي لاكتشاف اتجاهات جديدة.

ب. إحباط أعضاء الفريق البحثي: الباحثون, عند انضمامهم لبرنامج الدكتوراة, يدفعهم شغف الاكتشاف و الدخول لعالم الأبحاث و التفكير الإبداعي. إذا كبحت هذا الشغف فإن الطالب أو الطالبة سيذهب حماسهم و تفانيهم في العمل و سيكون حتى العمل “المصنعي” غير ممكن. باحثوا الدكتوراة يواجهون الكثير من الصعوبات و الضغوطات, و الشيء الوحيد الذي يحفزهم للاستمرار هو أنهم يقومون بالعمل الإبداعي و كونهم جزء من الرسالة العلمية. إذا أزلت هذا الجزء, فالنتيجة الحتمية هي إحباط و فشل في المشروع الدراسي و البحثي.

ثالثا: القناعة بأن قيادتك لها تأثير

أحد الأخطاء الأخرى التي يقع فيها الكثير هو اعتقادهم أن مخرجات الطالب تعتمد على الطالب فقط و ليس على قيادة مدير الفريق البحثي. القاء اللوم على “الحظ” يمنعك من تطوير مهارات قيادة الأبحاث. و للوهلة الأولى قد يبدو ذلك صحيحا – اذا كان الطالب جيدا, فهو سيستطيع القيام بالأبحاث و التعلم باستقلالية. لكن الذي تخسره أن العديد من الباحثين أصحاب الإمكانيات قد لا تتاح لهم الفرصة لاكتشاف و استغلال امكاناتهم. ليستطيع أن تكون لديك قناعة بتأثيرك في مخرجات فريقك, عليك رؤية معامل الأبحاث في مجالك و كيف أن بعضها لها تأثير أكبر من الآخرين بمراحل حتى و إن كانت في نفس مستوى و تأهيل المعامل الأخرى. طريقة أخرى لتصبح لديك هذه القناعة هي أن تجرب أخذ هذا الدور القيادي في تحفيز و دعم طلبتك و الخوض في مشوار اكتشاف مواهبهم و ترى النتيجة بنفسك.

رابعا: الأبحاث ليست كل شيء

الأبحاث (كأوراق أو مشاريع) هي ليست كل شيء عند الحديث عن معمل بحثي. الهدف الكبير و البعيد و التأثير أهم بمراحل. و تحقيق هذه الأجزاء هي مهمة مدير الفريق البحثي بتواصله مع المجتمع البحثي و العملي, و اتساع دائرة الاطّلاع لاستشراف المستقبل و الأهداف الملائمة للمعمل البحثي.

خامسا: القراءة و السؤال

أخيرا, قيادة معمل بحثي هو موضوع مشترك للعديد من الأكاديميين و ستجد الكثير من المصادر للاستئادة من تجارب الآخرين. القراءة و السؤال و التعلم من تجارب الآخرين استثمار ضروري يجب أن تقوم به. الأغلب من الباحثين لا يكون جزء من دراستهم و عملهم البحثي معرفة كيفية قيادة معمل بحثي, و هذا يعني أن المهمة مناطة بك لتقوم بتعلمها بنفسك.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

*