مؤخرا أصبحت أتذكر تجربتين مررت بهما لمشاريع قواعد بيانات يقودها أساتذة زائرين في شركات تقنية.
الأول في شركة, فيها موظفون و طلبة متمرنون يعملون على مشروع لبناء قاعدة بيانات و يشرف عليهم أستاذ من جامعة كبيرة (فلنسمه أستاذ س) يحمل كل الجوائز التي يمكن أن تتخيلها من مجتمعه الأكاديمي. قاعدة البيانات لم تكتمل و أخذت وقتا طويلا لكل خطوة للأمام (هذا إن لم تأخذ خطوات للخلف). لماذا؟ الموظفون الذين يعملون في المشروع كلهم مهندسوا برمجيات لديهم خبرة بالسنوات. لكن التالي كان يحصل في كل اجتماع بينهم و بين الأستاذ س الذي يشرف على المشروع. يقوم بعد الموظفين بعرض تقدمهم و أفكارهم في المشروع ليقوم أستاذ س بنقد و تدمير جميع أفكارهم و التقليل من فهمهم لمواضيع قواعد البيانات. “التعليم في جامعتك يبدوا أنه كان فاشلا لتفكر بهذه الطريقة” و ساخراً “نعم أنت المحق و أنا صاحب هذه الجوائز مخطئ” بعض الأمثلة لما يقوله للموظفين في مشروعه. النتيجة؟ أصبح الجميع خائفا و حذرا من التعليق و العمل للأمام و الكثير منهم كره المجال بالكامل.
التجربة الثانية لأستاذ آخر (فلنسمه أستاذ ص) الذي لا يقل عن أستاذ س في مكانته. الفرق أن أستاذ ص كان له طريقة مختلفة في التعامل مع فريقه من مهندسي البرمجيات. عند استثارة أي موضوع يكون فيه خلاف أو سوء فهم من أحد المهندسين كان الأستاذ يقوم بالنقاش للدخول في تفاصيل الموضوع. النقاش كان يدور على مستوى واحد فيه مناقشة للأفكار و الدوافع من دون أن يشهر أستاذ ص شهادته و مكانته العلمية. النتيجة من هذا النقاش هي هي إما أن المهندس قد أساء فهم أحد المواضيع المتعلقة بقواعد البيانات و النقاش ساعده على فهمها بشكل متعمق أو (و هو المهم بشكل أكثر) أن مهندس البرمجيات بناء على خبرته المختلفة و التطبيقية قد وقع على مشكلة أو حل خارج إطار البحث الأكاديمي و خبرة الأستاذ ص. الموظفون أصبح لهم ثقة في المشاركة و العمل و الدفع بعجلة البناء سريعا و الأستاذ ص استفاد بمعرفة تطبيقية أكثر كانت خارج نطاق بحثه الأكاديمي.
السبب الذي يدفعني لتذكر هذه التجربتين هي بعض النقاشات الدائرة مؤخرا و من فترات طويلة في تويتر. في الكثير من هذه النقاشات يأخذ الأكاديمي دور حارس البوابة الذي يمنع الأشخاص الآخرين من النقاش في موضوع تخصصه الدقيق. للأسف أن كثير من هذه النقاشات ينتهي ب “أنا لدي الشهادة المتقدمة إذاً أنا محق”. لكن هذا النوع من التفكير يغفل أمرين أساسيين: أولا أن الشهادة لا تعني أنك محق حتى لو كنت تتحدث في صلب تخصصك و بحثك. المجال العلمي عندما يلتقي بالتطبيقي يؤدي إلى تعقيدات قد لا تكون واضحة عند النظر من منطلق تجريدي. هذا بالإضافة إلى أن التطبيقات للموضوع البحثي قد تكون لها خصائص مختلفة خارجة عن العوام المستنبطة في السياق البحثي. ثانيا, قد تكون محقا أيها الأكاديمي و لكن هل دورك أن تكون حارس بوابة و أن تستفرد بالعمل بالموضوع البحثي؟ كأكاديمي, جزء من واجبك هو نشر المعلومة للمختص و العامل و المهتم بمجال بحثك. و هذه العملية لا تكون بإشهار الشهادة, بل بالنقاش الدائم و المفتوح.
إشهار الشهادة و التخصص لإغلاق النقاش يترتب عليه سلبيات كثيرة. هي تفقد مصداقية الأبحاث لتصبح كتمارين خارجة عن إطار التطبيق. و أيضا, هي تنفر الطلبة و العاملين في المجال من العمل البحثي و محاولة الدخول في المجال الأكاديمي. عندما يصبح النقاش حكرا على المتخصص, فإن الطالب و العامل في المجال لن يستطيع الدخول. و الوحيد الذي يستطيع الدخول هو أحد اثنين: الطالب الذي يوافق المتخصصين في كل كلامهم و هذا ليس المجتمع الأكاديمي الذي يشجع على النقاش. أو الطالب صاحب الكاريزما و المعرفة الأساسية التي توافق المتخصصين مما يدفع بالكثير من الطلبة الآخرين بعيدا بالذات من الطلبة الذين قد يكون لديهم إحساس بأنهم “مختلفون” عن السائد في المجال.
إن كان مجالك الأكاديمي يحظى باهتمام شريحة كبيرة من الناس, فخذها كفرصة لتصبح مؤثرا بنشر المعلومة الصحيحة و حب التخصص و تشجيع الطلبة و العاملين ليتبحروا فيه. لا تكن حارس بوابة يجعل المجتمع البحثي و النقاش العام سامّاً لشهادة و حبر على ورق.
للأسف.
العالم يتوقف عن العلم و الاكتساب بمجرد التفكير أنه أصبح عالماًً.
في عالمنا الكثير من هذا النوع و هم للأسف من يعززون للجمود الأكاديمي و الركود العلمي.
فالتعلم له نشوه و الاستماع أدب. فقبل العلم تربية النفس.
لدي الكثير لقوله و لكن خريطة المفتايح بالعربي في هذا الجهاز متعبه.
#_#
شكرا على ردك. بالفعل التعلم عملية مستمرة و الاعجاب بالنفس و التوقف هما أعداء العلم.